حب الشهادة
من جملة المقدمات البارزة في ثورة عاشوراء، والمعنويات العالية للحسين وأنصاره هو عنصر حب الشهادة، أي اعتبار الموت في سبيل الله إحدى الحسنيين ونافذة لبلوغ مقام القرب الإلهي ورؤية جنات الخلود، وهذا ما يجعلهم يتعطشون لإدراك فضيلة الشهادة.
وقد صرح الإمام الحسين عليه السلام بهذا في الخطبة التي قال فيها: "خط الموت…" وانتقى أنصاره بقوله: "ومن كان فينا باذلاً مهجته فليرحل معنا" وسار بهم نحو منحر الشهادة.
وهكذا يتفاوت استقبال الموت مع الانتحار؛ لأن الأول قائم على إدراك أسمى من فلسفة الحياة، بينما الانتحار وإلقاء النفس إلى التهلكة حرام شرعاً. واستقبال الموت في سبيل القيم السامية مشروع ومعقول. وحتى إذا علم الإنسان أنّه سيشهد في المواجهة فإن موته ليس انتحاراً لأن التكليف يفرض أحياناً التضحية بالنفس في سبيل الدين، لأن الدين أغلى من الإنسان.
وحل هذا اللغز (اختار الموت عن وعي) إلاّ من خلال إدراك وفهم أعلى من الحياة والكرامة الإنسانية. وذهاب الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء مع علمه بمقتله يُعزى إلى هذا الفهم. فهو عليه السلام يرى الموت خيراً من الحياة بذل: "لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برماً".
وهذه الثقافة متعارفة لدي كل الأقوام والشعوب، وهذا النوع من الموت الاختياري والواعي إتمام للحياة الحرّة الشريفة وليس مناقضاً لها؛ لأن الموت ليس هو النهاية حتّى يقول قائل: أنّه أنهى حياته باختيار أسلوب الموت. فالموت الأحمر والاستشهاد نوع من الكمال الأسمى من الحياة. والحسين مه علمه بشهادته في واقعة الطف، سار إلى منحر الشهادة ليحيى الإسلام في ظل شهادته، ويترعرع الحق. ولا شك أن مثل هذا الهدف يستحب أن يضحّي لأجله الحسين. وهذا الطريق اختاره الحسين بإرادته، وفتحه أمام الإنسانية، والسائرون على هذا الطريق الخالد كلهم تلاميذ مدرسة عاشوراء.
وفي ليلة عاشوراء نهض أصحاب الإمام الحسين، الواحد تلو الأخر وأعلنوا عن هذا الاستعداد ولم يكن في قلوبهم أي خوف من الموت. وفي الطريق إلى كربلاء لمّا سمع علي الأكبر عليه السلام أباه يسترجع ويتحدّث عن الشهادة سأله: "ألسنا على الحقّ" فقال له: نعم. فقال علي الأكبر: "يا أبه لا نبالي بالموت"(حياة الإمام الحسين 3: 73، اللهوف: 26) وفي ليلة عاشوراء سأل القاسم عمه الحسين عليه السلام: وهل أنني سأقتل أيضاً؟ فسأله الحسين: كيف تجد الموت؟ قال: "أحلى من العسل" (إثبات الهداة 5: 204).
وكل هذا يكشف عن مدى الاستعداد وعلو التفكير بحيث يكون الموت في سبيل العقيدة والشهادة في سبيل الله أمنية قلبية لأتقياء قطعوا كل صلة لهم بملذات الدنيا وتعلقوا بالحياة الأبدية والرزق الإلهي في ظل الشهادة. وقد جاء هذا المفهوم في الأشعار التي كان ينشدها الإمام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء وما سبقه، ومن جملتها:
وأن تـكن الأبـدان للمـوت أُنشـئت
فقتل امرءٍ بالسيف في سبيل الله أفضل
كما ويتّضح هذا المعنى من الرجز الذي كان ينشده: "الموت أولى من ركوب العار…" (كشف الغمة 2: 32).
وجاء في خطبة زينب عليها السلام في مجلس يزيد أنها تفتخر بهذه الشهادة حين قالت: "… فالحمد لله رب العالمين الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة"(بحار الأنوار 45: 135).
وقال الإمام السجاد عليه السلام رداً على ابن زياد الذي هدده بالقتل: "أبالقتل تهددني يا ابن زياد؟ أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا الشهادة".